فصل: قال الشنقيطي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهكذا لم يعلم الناس أنهم إزاء هذا القرآن فريقان: فريق يستجيب فهو حي. وفريق لا يستجيب فهو ميت. ويعلم هذا الفريق أن قد حق عليه القول، وحق عليه العذاب!
والمقطع الثاني في هذا القطاع يعرض قضية الألوهية والوحدانية، في إطار من مشاهدات القوم، ومن نعم البارئ عليهم، وهم لا يشكرون:
{أولم يروا أن خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعامًا فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون}.
أو لم يروا؟ فآية الله هنا مشهودة منظورة بين أيديهم، ليست غائبة ولا بعيدة، ولا غامضة تحتاج إلى تدبر أو تفكير.. إنها هذه الأنعام التي خلقها الله لهم وملكهم إياها. وذللها لهم يركبونها ويأكلون منها ويشربون ألبانها، وينتفعون بها منافع شتى.. وكل ذلك من قدرة الله وتدبيره؛ ومن إيداعه ما أودع من الخصائص في الناس وفي الأنعام، فجعلهم قادرين على تذليلها واستخدامها والانتفاع بها. وجعلها مذللة نافعة ملبية لشتى حاجات الإنسان. وما يملك الناس أن يصنعوا من ذلك كله شيئًا. وما يملكون أن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له. وما يملكون أن يذللوا ذبابة لم يركب الله في خصائصها أن تكون ذلولًا لهم!.
{أفلا يشكرون}.
وحين ينظر الإنسان إلى الأمر بهذه العين وفي هذا الضوء الذي يشيعه القرآن الكريم. فإنه يحس لتوه أنه مغمور بفيض من نعم الله. فيض يتمثل في كل شيء حوله. وتصبح كل مرة يركب فيها دابة، أو يأكل قطعة من لحم، أو يشرب جرعة من لبن، أو يتناول قطعة من سمن أو جبن.
أو يلبس ثوباُ من شعر أو صوف أو وبر.. إلى آخره إلى آخره.. لمسة وجدانية تشعر قلبه بوجود الخالق ورحمته ونعمته. ويطرد هذا في كل ما تمس يده من أشياء حوله، وكل ما يستخدمه من حي أو جامد في هذا الكون الكبير. وتعود حياته كلها تسبيحًا لله وحمدًا وعبادة آناء الليل وأطراف النها.
ولكن الناس لا يشكرون. وفيهم من اتخذ مع هذا كله آلهة من دون الله: {واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون} وفي الماضي كانت الآلهة أصنامًا وأوثانًا، أو شجرًا أو نجومًا، أو ملائكة أو جنًا.. والوثنية ما تزال حتى اليوم في بعض بقاع الأرض. ولكن الذين لا يعبدون هذه الآلهة لم يخلصوا للتوحيد. وقد يتمثل شركهم اليوم في الإيمان بقوى زائفة غير قوة الله؛ وفي اعتمادهم على أسناد أخرى غير الله. والشرك ألوان، تختلف باختلاف الزمان والمكان.
ولقد كانوا يتخذون تلك الآلهة يبتغون أن ينالوا بها النصر. بينما كانوا هم الذين يقومون بحماية تلك الآلهة أن يعتدي عليها معتد أو يصيبها بسوء، فكانوا هم جنودها وحماتها المعدين لنصرتها: {وهم لهم جند محضرون}. وكان هذا غاية في سخف التصور والتفكير. غير أن غالبية الناس اليوم لم ترتق عن هذا السخف إلا من حيث الشكل. فالذين يؤلهون الطغاة والجبارين اليوم، لا يبعدون كثيرًا عن عباد تلك الأصنام والأوثان. فهم جند محضرون للطغاة. وهم الذين يدفعون عنهم ويحمون طغيانهم. ثم هم في الوقت ذاته يخرون للطغيان راكعين!
إن الوثنية هي الوثنية في شتى صورها. وحيثما اضطربت عقيدة التوحيد الخالص أي اضطراب جاءت الوثنية، وكان الشرك، وكانت الجاهلية! ولا عصمة للبشرية إلا بالتوحيد الخالص الذي يفرد الله وحده بالألوهية. ويفرده وحده بالعبادة. ويفرده وحده بالتوجه والاعتماد. ويفرده وحده بالطاعة والتعظيم.
{فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون}.
الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وهو يواجه أولئك الذين اتخذوا من دون الله آلهة. والذين لا يشكرون ولا يذكرون. ليطمئن بالًا من ناحيتهم. فهم مكشوفون لعلم الله. وكل ما يدبرونه وما يملكونه تحت عينه. فلا على الرسول منهم. وأمرهم مكشوف للقدرة القادرة. والله من ورائهم محي.
ولقد هان أمرهم بهذا. وما عاد لهم من خطر يحسه مؤمن يعتمد على الله. وهو يعلم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون. وأنهم في قبضته وتحت عينه وهم لا يشعرون!
والمقطع الثالث في هذا القطاع الأخير يتناول قضية البعث والنشور:
{أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلًا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا فإذا أنتم منه توقدون أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون}.
ويبدأ هذا المقطع بمواجهة الإنسان بواقعه هو ذاته في خاصة نفسه. وهذا الواقع يصور نشأته وصيرورته مما يراه واقعًا في حياته، ويشهده بعينه وحسه مكررًا معادًا. ثم لا ينتبه إلى دلالته، ولا يتخذ منه مصداقًا لوعد الله ببعثه ونشوره بعد موته ودثور.
{أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين}.
فما النطفة التي لا يشك الإنسان في أنها أصله القريب؟ إنها نقطة من ماء مهين، لا قوام ولا قيمة! نقطة من ماء تحوي ألوف الخلايا.. خلية واحدة من هذه الألوف هي التي تصير جنينا. ثم تصير هذا الإنسان الذي يجادل ربه ويخاصمه ويطلب منه البرهان والدليل!
والقدرة الخالقة هي التي تجعل من هذه النطفة ذلك الخصيم المبين. وما أبعد النقلة بين المنشأ والمصير! أفهذه القدرة يستعظم الإنسان عليها أن تعيده وتنشره بعد البلى والدثور؟
{وضرب لنا مثلًا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم}.
يا للبساطة! ويا لمنطق الفطرة! ومنطق الواقع القريب المنظور!
وهل تزيد النطفة حيوية أو قدرة أو قيمة على العظم الرميم المفتوت؟ أو ليس من تلك النطفة كان الإنسان؟ أو ليست هذه هي النشأة الأولى؟ أو ليس الذي حول تلك النطفة إنسانًا، وجعله خصيمًا مبينًا بقادر على أن يحول العظم الرميم مخلوقًا حيًا جديدًا؟
إن الأمر أيسر وأظهر من أن يدور حوله سؤال. فما بال الجدل الطويل؟!
{قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم}.
ثم يزيدهم إيضاحًا لطبيعة القدرة الخالقة، وصنعها فيما بين أيديهم وتحت أعينهم مما يملكون:
{الذي جعل لكم من الشجر الأخصر نارًا فإذا أنتم منه توقدون}.
والمشاهدة الأولية الساذجة تقنع بصدق هذه العجيبة! العجيبة التي يمرون عليها غافلين. عجيبة أن هذا الشجر الأخضر الريان بالماء، يحتك بعضه ببعض فيولد نارًا؛ ثم يصير هو وقود النار. بعد اللدونة والاخضرار.. والمعرفة العلمية العميقة لطبيعة الحرارة التي يختزنها الشجر الأخضر من الطاقة الشمسية التي يمتصها، ويحتفظ بها وهو ريان بالماء ناضر بالخضرة؛ والتي تولد النار عند الاحتكاك، كما تولد النار عند الاحتراق.. هذه المعرفة العلمية تزيد العجيبة بروزًا في الحس ووضوحًا. والخالق هو الذي أودع الشجر خصائصه هذه. والذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. غير أننا لا نرى الأشياء بهذه العين المفتوحة ولا نتدبرها بذلك الحس الواعي.
فلا تكشف لنا عن أسرارها المعجبة. ولا تدلنا على مبدع الوجود. ولو فتحنا لها قلوبنا لباحت لنا بأسرارها، ولعشنا معها في عبادة دائمة وتسبيح!
ثم يستطرد في عرض دلائل القدرة وتبسيط قضية الخلق والإعادة للبشر أجمعين: {أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم}.
والسماوات والأرض خلق عجيب هائل دقيق.. هذه الأرض التي نعيش عليها ويشاركنا ملايين الأجناس والأنواع، ثم لا نبلغ نحن شيئًا من حجمها، ولا شيئًا من حقيقتها، ولا نعلم عنها حتى اليوم إلا القليل.. هذه الأرض كلها تابع صغير من توابع الشمس التي تعيش أرضنا الصغيرة على ضوئها وحرارتها.. وهذه الشمس واحدة من مائة مليون في المجرة الواحدة التي تتبعها شمسنا، والتي تؤلف دنيانا القريبة! وفي الكون مجرات أخرى كثيرة. أو دنييات كدنيانا القريبة. عد الفلكيون حتى اليوم منها مائة مليون مجرة بمناظيرهم المحدودة. وهم في انتظار المزيد كلما أمكن تكبير المناظير والمراصد. وبين مجرتنا أو دنيانا والمجرة التالية لها نحو خمسين وسبع مائة ألف سنة ضوئية السنة الضوئية تقدر بستة وعشرين مليون مليون من الأميال!.. وهناك كتل ضخمة من السدم التي يظن أنه من نثارها كانت تلك الشموس. وهذا هو الجزء الذي يدخل في دائرة معارفنا الصغيرة المحدودة!
تلك الشموس التي لا يحصيها العد. لكل منها فلك تجري فيه. ولمعظمها توابع ذات مدارات حولها كمدار الأرض حول الشمس.. وكلها تجري وتدور في دقة وفي دأب. لا تتوقف لحظة ولا تضطرب. وإلا تحطم الكون المنظور واصطدمت هذه الكتل الهائلة السابحة في الفضاء الوسي.
هذا الفضاء الذي تسبح فيه تلك الملايين التي لا يحصيها العد، كأنها ذرات صغيرة. لا نحاول تصويره ولا تصوره.. فذلك شيء يدير الرءوس! {أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} وأين الناس من ذلك الخلق الهائل العجيب؟
{بلى وهو الخلاق العليم} ولكن الله- سبحانه- يخلق هذا وذلك ويخلق غيرهما بلا كلفة ولا جهد. ولا يختلف بالقياس إليه خلق الكبير وخلق الصغير: {إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون}.
يكون هذا الشيء سماء أو أرضا. ويكون بعوضة أو نملة. هذا وذلك سواء أمام الكلمة.. كن.. فيكون!
ليس هناك صعب ولا سهل. وليس هنالك قريب ولا بعيد.. فتوجه الإرادة لخلق الشيء كاف وحده لوجوده كائنا ما يكون. إنما يقرب الله للبشر الأمور ليدركوها بمقياسهم البشري المحدود.
الدرس الرابع:83 تسبيح الله المالك للملك وعند هذا المقطع يجيء الإيقاع الأخير في السورة. الإيقاع المصور لحقيقة العلاقة بين الوجود وخالق الوجود: {فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون}.
ولفظة ملكوت بصياغتها هذه تضخم وتعظم حقيقة هذه العلاقة. علاقة الملكية المطلقة لكل شيء في الوجود. والسيطرة القابضة على كل شيء من هذا المملوك.
ثم إن إليه وحده المرجع والمصي.
إنه الإيقاع الختامي المناسب لهذه الجولة الهائلة، وللسورة كلها، ولموضوعاتها المتعلقة بهذه الحقيقة الكبيرة، التي يندرج فيها كل تفصيل. اهـ.

.قال الشنقيطي في الآيات السابقة:

{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 26] وأوضحنا فيه التفصيل بين النظم الوضعية، وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)}.
قوله: {جِبِلًا كَثِيرًا}. أي خلقًا كثيرًا كقوله تعالى: {واتقوا الذي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين} [الشعراء: 184]، وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من كون الشيطان أضل خلقًا كثيرًا من بني آدم جاء مذكورًا في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس} [الأنعام: 128] أي قد استكثرتم أيها الشياطين، من إضلال الإنس، وقد قال إبليس: لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلًا، وقد بيّن تعالى أن هذا الظن الذي ظنه بهم من أنه يضلهم جميعًا إلا القليل، صدقه عليهم، وذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ المؤمنين} [سبأ: 20] كما تقدّم إيضاحه. وقرأ هذا الحرف نافع وعاصم: {جِبِلًا} بكسر الجيم والباء، وتشديد اللام وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي: {جِبِلًا} بضم الجيم، والباء وتخفيف اللام، وقرأه أبو عمرو وابن عامر: {جُبْلًا} بضم الجيم وتسكين الباء مع تخفيف اللام، وجميع القراءات بمعنى واحد أي خلقًا كثيرًا.
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)}.
قوله تعالى: {وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.
ما ذكره جلّ وعلا في هذه الآية الكريمة عن شهادة بعض جوارح الكفار عليهم يوم القيامة، جاء موضحًا في غير هذا الموضع كقوله تعالى في سورة النور {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النور: 24] وقوله تعالى في فصِّلت: {حتى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 2021] الآية. وقد قدّمنا الكلام على هذا في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثًا} [النساء: 42].
وبينا هناك أن آية يس هذه توضح الجمع بين الآيات كقوله تعالى عنهم: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثًا} [النساء: 42] مع قوله عنهم: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] ونحو ذلك من الآيات.
{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)}.
قوله تعالى: {نُنَكِّسْهُ فِي الخلق} أي نقلبه فيه، فنخلقه على عكس ما خلقناه من قبل، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده، وخلو من عقل وعلم، ثم جلعناه يتزايد وينتقل من حال إلى حال، ويرتقي من درجة إلى درجة إلى أن يبلغ أشُدَّه ويستكمل قوته ويعقل ويعلم ما له وما عليه، فإذا انتهى نكَّسْناه في الخلق، فجعلناه بتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبي في ضعف جسده وقلة عقله وخلوه من العلم، وأصل معنى التنكيس: جعل أعلا الشيء أسفله.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحًا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم: 54] الآية. وقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 45] الآية على أحد التفسيرين، وقوله تعالى في الحج: {وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5] وقوله تعالى في النحل: {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النحل: 70] وقوله تعالى في سورة المؤمن: {ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخًا} [غافر: 67].
وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة النحل وقرأ هذا الحرف عاصم، وحمزة: {نُنَكِّسْه} بضم النون الأولى، وفتح الثانية وتشديد الكاف المكسورة من التنكيس: وقرأه الباقون بفتح النون الأولى، وإسكان الثانية، وضم الكاف مخففة مضارع نكسه المجرد وهما بمعنى واحد. وقرأ نافع وابن ذكروان عن ابن عامر: {أَفَلاَ يَعْقِلُونَ} بتاء الخطاب؟ وقرأه الباقون: {أَفَلاَ يَعْقِلُونَ} بياء الغيبة.
قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى: {والشعراء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} [الشعراء: 224] وذكرنا الأحكام المتعلقة بذلك هناك.
{لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النمل، في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء} [النمل: 80] الآية. وفي سورة فاطر في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأحياء وَلاَ الأموات} [فاطر: 22].
{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: {خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} [النحل: 4].
قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} إلى قوله: {وَهُوَ الخلاق العليم}.
قد بينا الآيات الموضحة له في سورة البقرة والنحل مع بيان براهين البعث.
قوله تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] وبينا هناك أن الآيات المذكورة لا تنافي مذهب أهل السنة في إطلاق اسم الشيء على الموجود دون المعدوم؟ وقد قدمنا القراءتين وتوجيههما في قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} هناك. اهـ.